آخر العناوين
خوذ الريشة

قراءة للفنانة التشكيلية نادية العابد في تجربة الفنان بشير حمودة.

نادية العابد

هو أحد أهم نوابغ الفن في ليبيا ويعد من الفنانين الليبيين اللذين كان لدورهم الأثر المتميز في بناء صرح الفن الليبي المعاصر والرسم تحديداً لتدريس الفن وإفادة طلبته بكل شرف وخلق رفيع وتواضع جم لينشر صفته الإنسانية ..

وإنه كذلك حين تلقاه يستقبلك بوجهه البشوش ورقة مشاعره وتواضعه اللامحدود ونجلس نحن طلابه ومحبيه حوله نستمع إليه وكأننا بحضرة أحد العلماء فيكون حديثه عن الفن شيقاً وثرياً يتطرق فيه إلى جوانب مضيئة في حياته وذكرياته فيتراءى لنا ذلك الباسل القوي المفعم بروح الشباب وهو يضع مفردات المناهج مع زملائه الأفاضل .

تميزت أعمال بشير حمودة في اتخاذها أسلوباً تجرد به عن باقي الرسامين الليبيين من خلال تكوينات العمل الفني وفكرته فضلاً عن تقنياته واتساقه وارتباطه ببيئته الأصيلة وصدق التنفيذ فهو لم يتقيد بتحديدات فلسفية وعقائدية وحتى سياسية بل تعدى ذلك إلى اتخاذ مفهوم التعبيرية أساساً لعمله ، ويمكننا القول أن المكان بدلالته حاضر بشكل كبير في معظم أعماله ..

ظاهرة فنية بما تحمله أعماله من جديد في أسلوب هندسة وبناء اللوحة ، ريشته اللعوب الثمينة بالبهجات الفائقة عبر حدائق الشكل واللون ،ريشة ماهرة ثقفتها الدراسة والتمرس الدائب منفذاً لها بحيث يستقر لها الأمر في دنيا الطبيعة ووجوه الناس .

نسيج أعمال حمودة ساحر وأخاذ يكسو مساحات اللوحة بمهارة تربطها وشائج عضوية حميمة وكأنها لوحة تصويرية واحدة .. إن هذا الترابط يمثل ظاهرة عامة في الصيغة التشكيلية التي ابتكرها فناننا الكبير وأكسبها هوية ذاتية مميزة وهي حصيلة بالغة العمق والغنى خاض غمارها عبر سنين طويلة بعناد وصبر مستنفراً كل طاقاته الفنية وقواه الحسية والشعورية والفكرية .

هذه التجربة الفريدة بحضورها الكبير والفعال الساطع الدلالة نلتمسه من خلال الولع الشديد بلعبته ونلاحظ التمرس بهذه اللعبة السر اللاغنى عنه إطلاقاً في أعماله وهو سبيل خاص شقه بنفسه لنفسه وتميز به ..

وهو كما رأينا يبني لوحته التصويرية بعدد غير محدد من اللوحات التجريدية التكعيبية التعبيرية المترابطة فيما بينها لتنصهر كلها في بوثقه واحدة غنية الكثافة لتبرز على مساحات القماش في صيغة تشكيلية فذة مشحونة بالتفرد والجمال وبما تتجلى به  من تنوع لا حد له لغزارته في وتائر الحركة وضروب الحالات والأشكال .

ويضل فناننا العظيم من خلال لوحاته الرائعة أستاذاً ضليعاً فائق المهارة في صياغة الأنسجة التجريدية والتعبيرية والتكعيبية في آن معاً .. ففي حين نجد الفنان التجريدي يتوقف بأدائه عند حدود مجرد التعبير عن شيء ما بنفسه أو خارجها نجد بشير حمودة يتخطى تلقائياً تلك الحدود ومرتقياً بصيغته التشكيلية إلى العالم الخارجي محولاً إياه على مساحات لوحته وتحت لمسات فرشاته الساحرة إلى عالم فني آخر متكامل جديد حقاً وفريد بذاته وبمنتهى الإبداع .

فالمبدعون يدركون بوعي تام أن نشاطهم الإبداعي يحمل طابع البناء بالمعنى المعماري للكلمة ويدركون أن أية عمارة لا يمكنها الاستغناء قط عن أساس وهيكل متينين يتيحان لها النهوض والثبات والبقاء وهو ما ينتهجه بشير حمودة في لوحاته كأساس وهيكل لعمارته الساحرة البهاء ، فهو يمهر اللوحة بالملامح البارزة من طبيعة الوطن والشعب والإنسان الذي يبدعها ، إنه باختصار يعطيها هويتها .

ومن هنا أجد المدخل للحديث عن بعض لوحات الوجوه التي رسمها وكأنها في مرحلة ما من نشاط الفنان كان قد بلغه ذاك الحين واستقر عنده .. فهي تتميز بصفاء نادر من حيث الرؤية الفنية وبساطة في الأداء مع قوة وبالغ الغنى من حيث التكثيف والتركيز ..

ولكن أهم ما يميزها في اعتقادي هو المعالجة الماهرة لصياغة تلك الحركة الخفية المكنونة التي هي حركة الخلق وعماد الحياة والجمال في الكون وهي فحسبي من أمرها أن إعجابي بها لا يتوقف عند حد ، ومن الممكن جداً أن لا يجد المشاهدون منها لأول وهلة ما أجد أنا من قيم تثير في نفسي كل هذا الإعجاب ، فثمة فيها شيء غامض وسري مصحوب بشيء من الكتمان لكنك تنظر إليها متأملاً سارحاً وحائراً لتنسيك لوهلة أنها مجرد لوحة مرسومة على قماش وهذا النسيان الحتمي هو سر الفن الإبداعي وسر السلطة السحرية للفنان عندما يخاطب الإنسان لتعود إليها مراراً كثيرة علها تنكشف ليصبح هناك حوار جدلي متطور بين أخذ ورد ليبلغ مداه لحظة الوثوب إلى مستوى جديد وأرقى وأوعى .

ويبقى السر مخبوءاً وسط أغوار ذلك العمق البالغ الذي يتوغل ويسترسل عبر الأبعاد المتوالية مما يحمل البصر فعلاً على المضي في رحلة حقيقية لا يملك أن يقطع مسافاتها على غرار ما يفعل جناح طائر بل يسلكها كما تفعل ريشة بشير حموده مقتفياً آثار خطاها  من تنقل وتريث فسعي وتسلق وانحدار وكأنه يفتش عن منبع لذلك السر السحري الذي يضيء حدقتيه بالدهشة .

في لوحاته إحساس بانفراج غير محدود الرحابة وهو ما تدركه بوضوح حين تخرج من اللوحة بانطباع نهائي يسوده الإحساس القوي بالشفافية الرقيقة المضيئة الواسعة وكأننا قمنا برحلة عبر أعماق اللوحة وانتقلنا من مناخ نثري محدود إلى مناخ شعري لا محدود وندرك حينها فحوى ذلك البهاء الشعري الساحر الذي يستبد بأحداقنا ويتألق .

ومن هنا أرى من المفيد والضروري أن أخرج بخلاصة موجزة عما ورد من انطباعات وأفكار عن الخصائص الفنية التي تتفرد بها أعمال بشير حمودة الأستاذ والدكتور الذي كان له الفضل في ما وصل إليه  البعض من طلابه إن لم يكن جلهم .

تميزت أعماله بالطابع التجريدي التكعيبي والتعبيري منسوجاً بمادة الواقع الموضوعي مما يحفظ للموضوع الملامح الأساسية من هويته الفنية ومتانة الترابط والتلاحم في النسيج العام للوحه بحيث يتعذر على البصر تعيين حد أو حدود لأطراف شكل ما أو لون أو بقعة من الظل أو من الضوء ، كما أن التوازن بشكل وطيد ومريح بين أجزاءها وبين سطوع وخفوت اللون وأناقة مقتصدة في صياغة التعبير وأداء المعنى الجمالي تلميحاً وإيماءاً دون الإفصاح .. كما أن المهارة في ممارسة التكثيف وتوزيع الأحجام والأشكال وتنوع الألوان بالاختزال والتصرف الجمالي الحر ، وهناك أيضاً حركة الموضوع من ناحية وحركة المضمون النفسي من ناحية الفنان الذي أضفى ذاته بما تنطوي عليه هذه الذات في عالمها الداخلي من غنى الإحساس والشعور والفكر ليندمج فيه أتم الاندماج عن طريق التفاعل الجدلي الحميم ليولد هذا اللقاء واقع فني فريد مشحون بحياة فنية وبحركة لها تسلسل وفقاً لرؤية ومضمون وملامح وحس بصري ورهافة وعمق إحساس حين يكون موضوعه وجه إنسان .

هكذا تعيدنا روائع بشير حمودة إلى ذواتنا وهو ما كانت تفعله وما تزال روائع التراث الفني الإنساني العظيم وما أبلغ ما تنطوي عليه أعماله من قيم حياتيه تتعلق بوجودنا وغاياتنا وما نعانيه في هذا العصر المضطرب من تمزق وجداني موجع وضياع وتيه وغربة عن الذات وغثيان ويأس قاتم مرير .

وللمسألة على كل حال وجهها الآخر فلقد كان لكل عصر من العصور جانبه الإيجابي وعلى هذا الجانب جرت وماتزال تجري حتى اليوم ورشة بناء حضاري للوجدان الإنساني على شتى الأصعدة بمختلف أنواع النشاط ومن بينها الفن بما يشتمل عليه من مجالات الإبداع في مستوياته الرفيعة ، وعلى ذلك أجد من دواعي الاطمئنان والتفاؤل أن يكون من شعراء العالم وأدباءه وفنانيه اليوم فريق يصب نشاطه في ذلك المجرى الحضاري الإنساني وكم يسعدني ويملأني فخراً أن أجد الأستاذ الدكتور بشير حمودة هذا الفنان الليبي الكبير متخذاً مكانه بكل جدارة وسط هذا الفريق من الفنانين المبدعين البناة .




فنون طرابلس

فنون طرابلس

About Author

صحيفة فنية تهتم بأنواع الفنون السبعة

5 1 تصويت
تقييم المقال

اترك رد

0 تعليقات
ردود مضمنة
عرض كل التعليقات

قد يعجبك أيضا

خوذ الريشة

الفنان التشكيلي عبد الرزاق الرياني يتحدث لفنون طرابلس

كان الرياني متميز برسوماته منذ الطفولة ولوحظ ذلك عليه وهو ابن الحادية عشر ، رغم أن أقرانه لا يقلون تميز
0
للتعليق على المقال.x
()
x