قراءة انطباعية للفنانة التشكيلية نادية العابد

في تجربة الفنان يوسف فطيس والفنانة نجلاء الفيتوري
قراءة في تجربة الفنانة التشكيلية نجلاء الفيتوري
تمثل التجارب النسائية جانباً إبداعياً متميزاً في الحركة الفنية التشكيلية الليبية المعاصرة ولعل استمرارية الإنجاز عبر البحث عن صيغ محلية قد أعطت هذه التجارب أهمية خاصة تتجاوز في أساليبها الصيغ التقليدية وهي تمثل الطليعة الواعية من حيث البحث عن جماليات وعناصر محلية أو تراثية قادرة على الحياة من جديد ضمن إطار معاصر وأصيل بذات الوقت .. انفردت تجربة نجلاء في استلهامها العناصر التراثية وفي محاولاتها المتنوعة للبحث عن صيغة فنية معاصرة لها جذورها وروحها وتطورت تجربتها باتجاه شاعري معتمدة على ليونة الخط هذه الليونة بمعالجاتها وتكويناتها بشيء من الرقة والعفوية في التعبير تظهر حاملة رؤية متطورة تبحث في علاقة الفن بالواقع عبر أبعاده الاجتماعية وتقوم بترجمتها بصيغ تعبيرية حديثة تفيد في الفنون الشعبية بفلسفتها وجمالياتها وتطرح على بساط البحث أهمية الموضوع الاجتماعي والسياسي .. مرت تجربتها بمراحل مختلفة طرحت خلالها أكثر من صيغة للتعبير لكن ثمة وحدة على صعيد الرؤية التي تنشد المضمون الواقعي وتكشف عن مدى الوعي الذي تمتعت به خلال رحلة الفن .. ومن خلال حديث بسيط دار بيني وبينها أكدت لي أن الفن يتمتع بأعلى درجة من القوة ويغوص في أعماق الحياة ليحمل هذه الأعماق إلى النور واهباً لها شكلاً ، فنحن لا نستطيع فصل الفن عن المجتمع الإنساني لأنه مادته وقوامه .
في إنتاج نجلاء الفني جاذبية صارخة فنميز في لوحاتها مضموناً لقضايا اجتماعية وسياسية كما في لوحاتها الأخيرة من نداء الماء ما لفت الأنظار إلى تلك الجاذبية التي ميزتها في مجرى الحركة الفنية فهي عندما تحكي لا تحكي كمن لا يكترث بل كمن اتخذ موقفاً .. خطوطها وألوانها وتكويناتها لم تكن قط مقصودة لذاتها من أجل تشييد لوحات تروق للباحثين عن المتعة في الفن بل إن وراء الألوان والأشكال والصيغ في لوحاتها على الدوام قضية لا تكتفي بعرضها بل وتتخذ منها موقفاً وأن الشيء المؤكد لمن يتابع إنتاج نجلاء هو أن هذه الفنانة وهذه نقطة فخر لها أنها استطاعت أن تجعل الموضوع الاجتماعي محور فنها تدلي من خلاله برأيها الشخصي بشجاعة ونبل .. فنانة على درجة عالية من الوعي والثقافة هادئة حد الرصانة تتحدث إليك برقة بالغة ولطف شديد تحيطك باهتمامها وكأنك أخر وأول الزائرين .
قراءة في تجربة الفنان التشكيلي يوسف فطيس
تعد تجربة الفنان يوسف فطيس تجربة هامة من تجارب الفن التشكيلي الليبي والتي تمتعت بخصوصية وتميز تجاوزت الصيغ المحدودة للتعبير التي عرفناها من قبل ، فتجربته تدفعك لوقفة طويلة وتثير الاهتمام لما وصل إليه من قوة وثبات ، فتجربته أكثر عمقاً في بناءاتها التجريدية ومعالجاتها من خلال القيم الفنية التي يؤكد عليها في الأجسام والوجوه ..أعماله تعتمد على شفافية اللون وعلى عملية تمييعه حتى يقدم لنا غياب الشكل الواضح وكأنها عملية تقنية يقدمها لنا كصيغه جديدة للفن أكثر تحرراً مما عرفناه قبل ذلك ، إن حركة الفرشاة بعفوية واختزال الشكل وتحريفه ساعده على تقديم إنسيابيته وكأن الأشكال غائبة ومحطمة والحركة تبرز على التحديد الدقيق لمعالم الشكل الإنساني فنرى تقديم عملية تحطيم الشكل عن طريق تمييع اللون فغابت المعالم التفصيلية وبقى الانطباع اللوني ، ولكنها ظلت محتفظة بروحيتها بحيث تداخلت في منتهى الانسجام اللوني واستطاع عبر هذه العناصر أن يعالج مختلف الموضوعات والمضامين الإنسانية بتحوير الظاهر للنفاذ إلى عمق المعاناة بحيث أكد على التعبيرية كمتنفس لانفعالاته مستخدماً الألوان المشبعة بالضوء فسكنت تلك الألوان كتل الأجسام كما مساحات الأرض وبقع المياه البحرية .. إن أهمية تجربة فطيس تكمن في تطور الرؤية حيال الموضوع الواحد وليس الاستمرارية في المعاجة فقط ذلك أنه قدم خلال رحلته في الفن الكثير من الانفعالات المباشرة والآنية مستغرقاً في المأساة الإنسانية على حساب اللغة الشكلية ووصل إلى صيغة للتعبير حققها بشاعرية لا تنفي مضمونه المأساوي ومعاناته الصادقة ، لقد قدم مختلف المضامين بهدوء ورقة وشاعرية عبر جملة خصائص تقود المتلقي برفق إلى مضمونه ومبتغاه وتترك أثراً لا يمحى لأنها تعتمد الصدمة المباشرة بل الجمالية كمدخل للمأساة ، للموضوع القديم الجديد .. إن لجوء فطيس إلى الخطوط اللينة التي رسم بها الأشكال والأجساد وكأنها تستحضر حشداً من العلاقات الحرة والإيحاءات الميتافيزيقية والتوق نحو الانفلات وإمكانات الرفض الكاملة ، لكنه وحد بينها وعبر بها عن وحدة العناصر في اللوحة فبرزت الصياغة الواحدة لتقديم المضمون ومعالجته بنفس الروح وكأنه يقول أن الأجساد شيء من الأرض بتعرجاتها وتفاصيلها لنشعر بالتلاحم فيما بينها ليزيد ربط الجميع برباط محكم ، إن هذا التعاضد بين عناصر اللوحة التي تقدم المضمون ساعد على تأصيل العمل من خلال الأفكار والقضايا التي ألحت عليه في مختلف مراحله الفنية .. ويبدو لي بيقين من خلال نتاجه الإبداعي والمتتبع لمسيرته الفنية أن هذا الفنان قد كان على قدر المهمة وبمستواها فعلاً لأنها اتسمت بطابع شمولي من حيث الرؤية والأسلوب والمعالجة وهندسة وبناء اللوحة واستلهام القيم الجمالية والإثارات البصرية الشكلية والبحث عن الصراع والمعاناة كلها تشكلت في المخزون البصري والعاطفي والانفعالي قدمها ضمن عالم غنائي جميل بشفافية وشاعرية وعبر التأكيد على التعبير عن شتى الموضوعات والحالات الإنسانية ، كما أنه طور عناصره المستخدمة من رؤية سطحية إلى جمالية مجرده إلى آفاق جديدة ليست بمعزل عن التطور في الموضوع الاجتماعي والسياسي والإنساني ..
فنان متمكن من إدواته ويعرف تماماً ما يريد ، يمتلك إمكانات ثقافية بصرية وقدرة فائقة في الرسم التجريدي والتشكيلي وكأنها بالنسبة إليه وظيفة عضوية تمارس نفسها بنحو تلقائي مندمجاً فيها حساً وشعوراً وفكراً .. إنها عملية التموضع التي تعتبر أحد الشروط الرئيسية للإبداع الفني بوصف كونها الخطوة الأولى التي لابد للفنان أن يخطوها في صميم عالمه الخارجي كي يتسنى له أن يؤنسن موضوعه وبالتالي عالمه الداخلي الذاتي ويزيده رسوخاً وعمقاً وتجذراً في تربة إنسانيته .
نادية العابد