الشاي الليبي عبر التاريخ (الجزء الأول)

كان يسمى في الوثائق والتواريخ المغاربية ب “ التيه “، ولقد ورد هكذا في كتب الرحالة المغاربة وفي يوميات حسن الفقيه (بداية القرن التاسع عشر) و لا زال هذا اللفظ يستعمل في غدامس وغات. أما اليوم فهي تكتب في العربية (الشاي)، وبعدها حرفت في اللهجة الليبية إلى (الشاهي) ، بزيادة الهاء ، ولعلها هاءُ الاشتهاء ! .
ونجد أن أهم إضاءة لتاريخ الشاي في هامش وضعه الباحث والمؤرخ الليبي الأستاذ عمار جحيدر في تحقيقه ليوميات حسن الفقيه فيقول: “ ويبدو أنه عرف أول الأمر بذلك (التيه) أخذاً من اللغات الاوربية ولا يزال أثر ذلك في لهجة تونس حتى اليوم (التاي) ويرد في (تكملة المعاجم العربية) باسم (الشاى) مع الإحالة على (محيط المحيط) للبستانى وفيه أن :
(الشاى) نبات في الصين يغلى ورقه ويشرب ماؤه ، وهو عند الافرنج كالقهوة عند العرب وغيرهم).
ويبدو أنه من أقدم المعاجم العربية التى دخلتها الكلمة أذ كان الشاى آنذاك حديث عهد بالبلاد العربية .
عالة يوسف باشا القرمانلي
وفضلا عما جاء في يومية الفقيه المذكورة أعلاه (1832 – 1835 م) عن تقديم الشاى كمشروب لضيوف البلاط القرمانلى ترد إشارة مماثلة أقدم في إحدى الرحلات الأجنبية في أوائل القرن التاسع عشر(1805 م) لدى الرحالة (باديا ! ليبليك) الاسبانى المتنكر باسم على بك العباسى . ويعلق المؤرخ الراحل الاستاذ مصطفى عبدالله بعيو – رحمه الله تعالى – على ذلك بقوله : “ نجد الرحالة (المذكور أعلاه) يذكر الشاى كمشروب يقدم للزوار في حضرة الباشا ولم يسبق لاي رحالة آخر جاء قبله فيما أعلم أن اشار الى الشاي اذ الملاحظ أن جميعهم كانوا يشيرون الى الشربات أو القهوة كمشروب للزوار .

وبناء على قول الأستاذ بعيو نستطيع أن نستخلص أن الشاي لم يدخل إلى ليبيا قبل بداية القرن التاسع عشر، أي قبل مائتي عاما مضت ولا يتناوله آنذاك إلا الباشا وعائلته، وضيوفه.
كما قُدم الشاى الى يوسف باشا القرمانلى ومن كان معه من المدعوين في حفل استقبال بالقنصلية الفرنسية خلال سنة 1826 م بمناسبة عيد الملك .
وفي تركة يوسف باشا القرمانلى (المؤرخة في 1839 م) نجد أيضا تفاصيل عدة طهي الشاي :
(بكرج تيه وسكّريَة وصفرة صغيرة وجوز كواشيك قهوة وجوز كواشيك تيه ، الجميع فضة) وهو ما يفيد تخصيص بعض الأدوات لإعداد الشاي على نطاق ضيق منذ وقت مبكر.
ومجمل هذه الإشارات تدل على أن الشاي كان حتى ذلك الوقت مشروب النخبة ولم ينتشر بعد، وقد أثار التبغ – الدخان وكذلك القهوة عند ظهورهما وانتشارهما في العالم الاسلامى كثيراً من الاراء والجدل الفقهى بين التحريم والإباحة ، ويبدو أن الشاي كان أقل حدة وإثارة ومع ذلك فقد لاحظ الباحث عمار جحيدر من خلال بعض الفهارس الموريتانية وجود بعض الآثار المخطوطة حول الشاى وتحريمه وإباحته ! ويتساءل عما إذا كان للعلماء لليبيين آنذاك موقف ما من هذه المسائل في تاريخنا الاجتماعى .
ويذكر الباحث أعلاه أن العّلامة الاسدى قد قدّم – رحمه الله تعالى – نبذة موجزة عن تواريخ انتشار الشاي في العالم.
ويقتطف من تلك النبذة فقرة طريفة تقول:(وبعض الامم تشرب الجاى الأخضر كا لليبيين ، وشربته أنا عندهم، والأخضر هذا لم يكتمل اختماره).
وتروي السيدة مريم خليفة يعقوب (من فساطو) أن شراب الشاي في بداية دخوله إلى ليبيا في العهد التركي والإيطالي كان عيباً كبيراً مثل التدخين وتناول الخمر في الوقت الحاضر ومباح للرجال فقط ، ومحرم شربه على النساء. وأستمر هذا الحال حتى دخول الإنجليز حيث أنتشر وأصبح سائداً ولكنه كان غالي الثمن وهناك من لا يستطيع الحصول عليه لهذا نجد في تلك الفترة من يقايض ببعض البضائع النادرة والثمينة مقابل الحصول على الشاي” انتهى الاقتباس.
في العصر التركي “ شراب الملوك “ :
أن الشاي قد دخل إلى ليبيا في العصر التركي ولم يعرفه في ذلك الوقت عامة الناس ولكنه ظل مقتصراً على فئة معينة كالعائلة الحاكمة وبعض الشخصيات الهامة في البلاد مثل القناصل ووجهاء البلاد ونتيجة للظروف الصعبة التي كانت تمر بها البلاد من مجاعات وأمراض وضرائب باهظة من قبل حكام ذلك العصر أقتصر الناس على استهلاك أنواع معينة من الأطعمة دون غيرها وأن عامة الناس في العهد التركي كانوا يعرفون القهوة ولكنهم لا يشربونها لأنها كانت غير منتشرة على نطاق واسع ومقتصرة على الأغنياء فقط وكانت توجد بعض المقاهي التي تقدم القهوة في مدينة طرابلس.
وقد ذكرت الأنسة توللى القهوة في كتابها حيث قالت :
“ عندما كنت في زيارة إلى اللالة أماني بسبب مرضها قدمت لها القهوة في فناجين صغيرة جداً موضوعة في صينية فضية وصينية من الذهب التقديم القهوة الى السيدات المتزوجات وأضافوا إلى القهوة القرنفل والزعفران والقرفة وكانت القهوة مليئة بالسكر” أنتهى الاقتباس.
المقاهي في العهد التركي :
ويقول ريتشارد تولّى قنصل بريطانيا في وصف المقاهي في مدينة طرابلس:
“ يلتقي الأتراك المقيمون بطرابلس في المقاهي لتبادل الأخبار ومعرفة ما يدور في طرابلس من أمور أما سادة القوم فلا يأوون هذه المقاهي لأنهم يجتمعون في منازلهم على فرش فاخر ويبعثون خدمهم لإحضار القهوة لهم أما أن ذهب أحدهم الى المقهى فلا يذهب إلا ومعه خادمه لكي يمد له القهوة وتلبى طلباته ولما يجتمع هؤلاء السادة يدور الحديث بينهم وبعضهم يشرب قهوته والآخر يمتضى نرقيلة وآخرون قابضون على مناديلهم في أيديهم ويصعب على الاوربي الذي لا يعرف العادات هنا أن يتكيف مع الوضع ومجرى الحديث لأن المتكلم هنا يستعمل يده للتعبير عن شعوره بل لاستعمالها كما نستعمل نحن القلم لوضع الفاصلة أو القاطعة في الكتابة ويستعمل يده اليمنى في عد نقاط حديثه على أصابع اليسرى “. أنتهى الاقتباس.
ويصف الصحفي الألماني بانزه شرب القهوة في شهر رمضان بقوله :
“ قبل نصف ساعة من الغروب يصبح الجميع عصبين فثمة من يغلي القهوة ويهي سيجارة لفها لتوه ووضع بجانبها عود الكبريت أويأخذ قطعة خبز في يد وفنجان القهوة المملوء في اليد الأخر بينما يترقب الجميع طلقة المدفع “.
ولقد وصف الضابط التركي عبد القادر جامي الذي نفي إلى ليبيا في بداية القرن العشرين – الشاي على الطريقة الليبية حيث أورد بعض الطرائف عنه في رحلته المشهورة من طرابلس إلى فزان بقوله :
“ بعد أن أكلنا البازين في قصعة خشبية وشربنا اللبن الحامض وضعت أواني الشاي في الوسط : كؤوس زجاجية صغيرة على مائدة خشبية صغيرة وإبريقان صغيران وعلبة من الصفيح ملونة لوضع الشاي والسكر مما يدل على أن صاحب البيت ذو مال أو بتعبير أصح إنه تحصل على محصول زراعي وافر في هذه السنة. وإن الشاي الأخضر الذي أدمن أهالي طرابلس على شربه فتاك من الناحية الصحية والمالية وأكثر ضرراً من المشروبات الكحولية التي أدمن على تناولها الأوروبيون . فالشاي الأخضر الذي يلون بأصباغ مضرة يجد سوقاً رائجة عند الليبيين لأنهم يفضلون الأغمق لوناً على غيره ، والشاي بلية انتشرت في شمال افريقيا وآفة عممتها الزوايا السنوسية بين السكان . ورعاية لمنشأ هذه العادة يشترط أن يراعى في إحضاره وتوزيعه على الضيوف آداب خاصة. فالذي يحضر الشاي يقلد الوضع الذي يتصف به شيخ الزاوية أمام تلاميذه.
في العصر الإيطالي :
الشاي والحركة السنوسية :
يشير الرحالة المصري أحمد محمد حسنين الذي التقى بالسيد إدريس السنوسي في القاهرة عام 1915 الذي ساعده في الدخول إلى ليبيا سنة 1923 – يشير إلى موضوع الشاي في ليبيا:
“ حرم السيد ابن على السنوسى مؤسس الطائفة السنوسية في ليبيا شرب القهوة والدخان على أتباعه ولكنه لم يصدر أي أمر بشأن تحريم الشاي وكان أتباع الزاوية السنوسية يفضلون شرب الشاي عن القهوة لسبب دينى وعملى ولهذا تجد كل أتباعه يحبون الشاي : ذلك الشراب الذهبى الشهى ذى الرائحة الزكية (يقصد النبيذ) الذى يوسّع حافات الموائد في بلاد الحضارة . وأهل الصحراء يفضلون الشاي عن القهوة لأنه منشط على العمل وهم يشربونه عقب كل طعام ويختمون به رحلة اليوم.”
ويشرح المؤرخ الليبي (محمد بن مسعود فشيكة) كيف منعت السلطات الإيطالية تعاطي الشاي في ليبيا:
أصدرت إيطاليا سنة 1922 م قانوناً يمنع تصدير السكر والقهوة والشاي والدخان والأقمشة من المدن الساحلية الى الدواخل أو المناطق التي يوجد بها المجاهدون وقد وصل بعض التجار على خيولهم وجمالهم الى تونس واتجهت القوافل الى مصر في فصل الربيع لإحضار الأرز والملابس والسكر والشاي مقابل المواشي التي يحملونها معهم من الأسواق الليبية وابتلى الليبيون جميعاً بشرب الشاى في أعز أوقات النهار ، فكانوا يتجرعون من أكوابه ثلاث مرات في اليوم ، يقيمون له في الدكاكين الريفية والأسواق العامة ، مجالس خاصة وتستغرق مدة كل شربة ساعة أو ساعتين ، ومن أكبر أثار هذه البلوى انها عودتهم الكسل والخمول ، والتسلى بتقييد أحوال الناس وقد رأت الحكومة الايطالية بليبيا في ذلك الوقت ، ان شغف الليبيين بشرب الشاى تجاوز حدود العقل ، وتعودهم اياه على هذا الوصف ليس فيه مصلحة لها ولا لهم فاضطر المارشال بادوليو حوالى سنة 1933 م ان يعالجه بما يمكن ، فمنع ان يشربوه في المحلات العامة إلا في ساعات القيلولة ، ومع ذلك فقد كانوا يخالفون هذا الأمر الرسمى سراً .
مجالس الشاى والجهاد الليبي في العهد الإيطالي :
يقول الأستاذ محمد الأسطى في وصف مجالس الشاي في العصر الإيطالي:
“ في العهد الايطالي بالرغم من انعدام وسائل الاعلام (الاذاعتين) ولم تكن ثمة مجلات أو جرائد تستحق القراءة ومع هذا كانت أخبار المعارك تتسرب عبر العائدين من الجبهة الى الناس وبالتالى فأن السهرات حول أكواب الشاهي الصغيرة تنقل أخبار الجهاد وكان يتوسط الجمع الذى يعقد عن النساجين واحد ممن يجيدون القراءة ويمسك كتاب السيرة أو التاريخ ويقرأ هو وينصت الآخرون. حيث كانت مجالس النساجين التي كانت تدور في محلات انوال النسيج وما يدور في جلسات الشاي تمتد حتى منتصف الليل من بعد صلاة العشاء وما يتناقله المواطنون فيها من أخبار المعارك .
شاي بالكاكاوية على شاطى البحر في مدينة طرابلس :
تقول الأمريكيتان في وصف نزهه بحريه وشرب شاي بالكاكاوية : “ وإذا كان التغيير ضرورياً للحياة فحياتنا مليئة به فحين رجعنا من السوق وجدنا أربعة من أصدقائنا الفرسان ينتظروننا في الشرفة لأخذنا في نزهة بحرية في الميناء وكان قاربهم ذو الشراع المثلث البنى اللون مزيناً تكريماً لنا وقد فرشت أرض القارب بالسجاد القيروانى ورصت المقاعد والوسائد العربية عند مقدمة القارب حتى تخفف من اصطدام القارب بحاجز الأمواج حيث هبطنا لتناول الشاى وقد أخذ القارب ينزلق في يسر وسهولة فوق البحر الهادئ مارا بمقر الحكومة وقصر الأمير والمطار الجديد وفوق المقبرة البحرية حيث أغرقت الباخرة الأمريكية “ فيلادلفيا “ حتى وصلنا لمدخل الميناء واخذ فرساننا الأربعة بأيدينا فأنزلونا الى الشاطئ حيث جلسنا فوق السجاد والوسائد ثم تجمعوا أصدقائنا الفرسان في حمية ونشاط حول الموقد العربى والغلاية النحاسية يحاولون في حذر إيقاد النار بثلاثة عيدان من الكبريت هي كل ما استطاعوا ابقاءه جافاً وقد أمضينا وقتاً جميلاً ونحن نمرح ونشرب الشاي في أقداح زجاجية مع الفول السودانى ولأول مرة نذوق “ الحلاوة العسلية “ وهى حلوة مصنوعة من معجون الجوز وعسل النحل.
طرائف محمد الأسطى عن أغرب فنجان قهوة في ليبيا:
روى لى أحد المجاهدين ان ضباطا ألمانيين وأتراكا قدموا ضيوفا على احد قادة المجاهدين في مصراته فقدم لهم القهوة في فناجين عادية ولما استغربوا وتساءلوا عن مصدر البن والسكر في ذات الوقت الذى يعانون هم ايضا نقصا فيها في بلديهم الاصليتين وأجاب رئيس المجاهدين بان ما شربوه مصدره النخلة فالسكر مصدره اللاقبى الحلو من النخلة أما البن فإنه عبارة عن نواة البلح بعد حرقها وطحنها فأصبحت تعطى مذاقا أشبه بالبن تماماً وانصرف الضباط بعد أن ابدوا اعجابهم الشديد ودهشتهم.
في عصر الإدارة البريطانية:
أما بخصوص الشاي في سنوات الإدارة البريطانية يقول أحمد محمد القلال:
“ إن عادة شرب الشاي لها جذر متأصل في العادات والتقاليد فالتحول حول سفرة الشاي والكانون عقب الوجبة اليومية على الأقل أمر طبيعي ، غير أن السكر والشاي سلعتان يصعب توفيرهما، فكانتا من الأمور اليومية التي يجب تدبيرها وكما قال عنهما “ بنبكوف “ إنهما بقيمة الذهب بين الليبيين حينذاك ، مما دعا إلى القيام بمحاولات لإيجاد البديل ، فقد استعمل التمر بدل السكر ، وأعيد استعمال الشاي الذي سبق غليه غلياً خفيفاً ، واستعملت مادة “ شيقوريا “ بدل الشاي ، كل هذا كان إرضاء لمزاج عادة شرب الشاي وما يجري من دردشة وأن كانت بعيدة عن راحة النفوس “.
ويضيف قائلاً عن أزمة الشاي في عهد الإدارة البريطانية:
“ وخلال سنوات توزيع التموين البطاقي في عهد الانجليز تعرضت السلع إلى بعض التغيرات. فدقيق الشعير أوقف توزيعه في المدن لسهولة توفره في أسواق الحبوب، كما أوقف توزيع البن بحجة أن السكان لا يهتمون بشرب القهوة قدر اهتمامهم بشرب الشاي التقليدي في المدن والقرى، ولنقص الشاي عالمياً خفض مقدار الفرد إلى 60 جراماً شهرياً لعدة شهور من عام 1946 م “.
في العصر الملكي:
وصف جيمس ويلارد للشاي :
“ وبينما كنت أقوم بعملية مسح بمقدار ما تسمح الظروف أشعل الدليل ناراً صغيرة بأشواك جافة وجلس الى جانبها القرفصاء يلاعب اثنين من أباريق الشاي الصغيرة التي يصنع فيها أهل الصحراء الشاي البالغ الحلاوة الذي يدعونه “ ويسكي ليبيا “ وكان أيضاً قد فرش قطعة من القماش نثر عليها التمور التي يجففونها ويصلحون من أمرها عادة بدفنها في الرمال ودعيت لأشرب أول قدح من الشاي وأتناول عينة من التمر وكان الشاي وكانت التمور لذيذة فعلاً . في تلك اللحظات وأنا جالس على الرمل مع رجلين غريبين قلما كنت استطيع مخاطبتهما ولكنني كنت مع ذلك احدثهما ببضع كلمات من لغات مختلفة وببعض البسمات والحركات مختاراً لكل منهما ثمرة جيدة مشاركاً اياهما تناول الشاي من القدح الصغير نفسه (الذي كان يغسل تلطفاً بين كل رشفة وأخرى). وهنا احب أن أكون واثقاً من أن أحداً لا يسئ فهم ما أقول فأنا لا أنوي أن أضيف شيئاً الى المؤلفات الرومانطيقية العادية الكثيرة حول الشيوخ وأشجار النخيل يماوج سعفها النسيم العليل ومناظر الغروب وضوء القمر “.
يتبع الجزء الثاني في العدد القادم,,,,